فصل: فصل: في التلبية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

فإذا أحرم لبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا /شريك لك‏)‏‏.‏ وإن زاد على ذلك‏:‏ لبيك ذا المعارج، أو لبيك وسعديك، ونحو ذلك، جاز كما كان الصحابة يزيدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعهم، فلم ينههم، وكان هو يداوم على تلبيته، ويلبي من حين يحرم، سواء ركب دابة، أو لم يركبها، وإن أحرم بعد ذلك جاز‏.‏

والتلبية هي‏:‏ إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته‏.‏ والمعني‏:‏ إنا مجيبوك لدعوتك؛ مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك، والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العَجُّ والثَجُّ، فالعج‏:‏ رفع الصوت بالتلبية، والثج‏:‏ إراقة دماء الهدي‏.‏

ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل، بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها، ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال، مثل أدبار الصلوات، ومثل ما إذا صعد نشزًا، أو هبط واديًا، أو سمع ملبيًا أو أقبل الليل، والنهار، أو التقت الرفاق، وكذلك إذا فعل ما نهى عنه، وقد روي أنه من لبي حتى تغرب الشمس، فقد أمسي مغفورًا له‏.‏

وإن دعا عقيب التلبية، وصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، /وسأل الله رضوانه، والجنة، واستعاذ برحمته من سخطه، والنار، فحسن‏.‏

 فصل

ومما ينهى عنه المحرم‏:‏ أن يتطيب بعد الإحرام في بدنه أو ثيابه أو يتعمد لشم الطيب، وأما الدهن في رأسه، أو بدنه، بالزيت والسمن، ونحوه إذا لم يكن فيه طيب، ففيه نزاع مشهور، وتركه أولى‏.‏

ولا يقلم أظفاره، ولا يقطع شعره‏.‏ وله أن يحك بدنه إذا حكه، ويحتجم في رأسه، وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعرًا لذلك جاز، فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه، وهو محرم‏.‏ ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر‏.‏

وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره وإن تيقن أنه انقطع بالغسل، ويفتصد إذا احتاج إلى ذلك، وله أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق، وكذلك لغير الجنابة، ولا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب، ولا يصطاد صيدًا بريًا، ولا يتملكه بشراء، ولا اتهاب، ولا غير ذلك، ولا يعين على صيد ولا يذبح صيدًا، فأما صيد البحر كالسمك ونحوه، فله أن يصطاده، ويأكله‏.‏

وله أن يقطع الشجر، لكن نفس الحرم لا يقطع شيئًا من/ شجره، وإن كان غير محرم، ولا من نباته المباح، إلا الإذْخِر، وأمَّا ما غرس الناس، أو زرعوه، فهو لهم، وكذلك ما يبس من النبات، يجوز أخذه، ولا يصطاد به صيدًا، وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح، بل ولا ينفر صيده؛ مثل أن يقيمه ليقعد مكانه‏.‏

وكذلك حرم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بين لابيتها ـ و‏[‏اللابة‏]‏ هي الحرة، وهي الأرض التي فيها حجارة سود، وهو بريد في بريد‏.‏ والبريد‏:‏ أربعة فراسخ، وهو من عير إلى ثور، وعير‏:‏ هو جبل عند الميقات يشبه العير، وهو الحمار، وثور‏:‏ هو جبل من ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة؛ فهذا الحرم - أيضًا - لا يصاد صيده ولا يقطع شجره، إلا لحاجة كآلة الركوب، والحرث، ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأهل المدينة في هذا لحاجتهم إلى ذلك؛ إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه، بخلاف الحرم المكي‏.‏ وإذا أدخل عليه صيد لم يكن عليه إرساله‏.‏

وليس في الدينا حرم لا بيت المقدس، ولا غيره، إلا هذان الحرمان، ولا يسمي غيرهما حرمًا كما يسمي الجهال‏.‏ فيقولون‏:‏ حرم المقدس، وحرم الخليل‏.‏ فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه حرم مكة‏.‏ وأما المدينة فلها حرم - أيضًا - عند الجمهور، كما استفاضت /بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في ‏[‏وج‏]‏ وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم‏.‏

وللمحرم أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس؛ كالحية، والعقرب، والفأرة، والغراب، والكلب العقور، وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين، والبهائم، حتى لو صال عليه أحد، ولم يندفع إلا بالقتال قَاتَلَهُ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد‏)‏‏.‏

وإذا قرصته البراغيث والقمل فله إلقاؤها عنه، وله قتلها، ولا شيء عليه، وإلقاؤها أهون من قتلها، وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله، وإن كان في نفسه محرمًا كالأسد، والفهد، فإذا قتله فلا جزاء عليه، في أظهر قولي العلماء، وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه فلا يفعله، ولو فعله فلا شيء عليه‏.‏

ويحرم على المحرم الوطء، ومقدماته، ولا يطأ شيئًا سواء كان امرأة ولا غير امرأة، ولا يتمتع بقبلة، ولا مس بيد ولا نظر بشهوة‏.‏

فإن جامع فسد حجه، وفي الإنزال بغير جماع نزاع، ولا يفسد /الحج بشيء من المحظورات إلا بهذا الجنس، فإن قَبَّل بشهوة أو أمذي لشهوة فعليه دم‏.‏

 فصل

إذا أتي مكة جاز أن يدخل مكة والمسجد من جميع الجوانب، لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا التي فيها اليوم

باب المعلاة‏.‏

ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمكة ولا للمدينة سور، ولا أبواب مبنية، ولكن دخلها من الثنية العليا ثنية كَداء بالفتح والمد المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له‏:‏ باب بني شيبة، ثم ذهب إلى الحجر الأسود، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود لمن دخل من باب المعلاة‏.‏

ولم يكن قديمًا بمكة بناء يعلو على البيت، ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر الحرام بناء، ولا كان بمني ولا بعرفات مسجد، ولا عند الجمرات مساجد، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية، ومنها ما أحدث بعد ذلك، فكان البيت يري قبل دخول المسجد‏.‏

/وقد ذكر ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأي البيت رفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم زد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة وبرًا، وزد من شرفه وكرمه، ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتعظيمًا‏)‏‏.‏ فمن رأي البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد‏.‏

لكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل المسجد ابتدأ بالطواف ولم يصل قبل ذلك تحية المسجد، ولا غير ذلك، بل تحية المسجد الحرام هو الطواف بالبيت، وكان صلى الله عليه وسلم يغتسل لدخول مكة، كما يبيت بذي طُوَي، وهو عند الآبار التي يقال لها‏:‏ آبار الزاهر‏.‏ فمن تيسر له المبيت بها، والاغتسال، ودخول مكة نهارًا وإلا فليس عليه شيء من ذلك‏.‏

وإذا دخل المسجد بدأ بالطواف، فيبتدئ من الحجر الأسود يستقبله استقبالا، ويستلمه، ويقبله إن أمكن، ولا يؤذي أحدًا بالمزاحمة عليه، فإن لم يمكن استلمه، وقبل يده، وإلا أشار إليه، ثم ينتقل للطواف، ويجعل البيت عن يساره، وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين، ولا يمشي عرضًا، ثم ينتقل للطواف، بل ولا يستحب ذلك‏.‏

ويقول إذا استلمه‏:‏ بسم الله، والله أكبر، وإن شاء قال‏:‏ /اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويجعل البيت عن يساره، فيطوف سبعًا، ولا يخترق الحجر في طوافه، لما كان أكثر الحجر من البيت، والله أمر بالطواف به، لا بالطواف فيه‏.‏

ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، دون الشاميين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلمهما خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت‏.‏ فالركن الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان‏.‏ والاستلام هو مسحه باليد‏.‏ وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد، وحيطانها، ومقابر الأنبياء، والصالحين، كحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومغارة إبراهيم، ومقام نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه، وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فلا تستلم، ولا تقبل، باتفاق الأئمة‏.‏

وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه، دينًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولو وضع يده على الشاذروان الذي يربط فيه أستار الكعبة لم يضره ذلك، في أصح قولي العلماء، وليس الشاذروان من البيت، بل جعل عمادًا للبيت‏.‏

ويستحب له في الطواف الأول أن يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر، /في الأطواف الثلاثة، والرمل مثل الهرولة، وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطا، فإن لم يكن الرمل للزحمة كان خروجه إلى حاشية المطاف، والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون الرمل‏.‏ وأما إذا أمكن القرب من البيت مع إكمال السنة فهو أولى‏.‏

ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم، وما وراءها من السقائف المتصلة بحيطان المسجد‏.‏

ولو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره، سواء مر أمامه رجل، أو امرأة، وهذا من خصائص مكة‏.‏

وكذلك يستحب أن يضطبع في هذا الطواف، والاضطباع‏:‏ هو أن يبدي ضبعه الأيمن، فيضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإن ترك الرمل والاضطباع فلا شيء عليه‏.‏

ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى، ويدعوه بما يشرع، وإن قرأ القرآن سرًا فلا بأس، وليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك فلا أصل له‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏ ، كما كان يختم سائر دعائه بذلك، وليس في ذلك ذكر واجب باتفاق الأئمة، والطواف بالبيت كالصلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير‏.‏

ولهذا يؤمـر الطائف أن يكون متطهرًا الطهارتين الصغري والكبري ويكون مستور العورة، مجتنب النجاسة التي يجتنبها المصلي والطائف طاهرًا، لكن في وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف ولا نهى المحدث أن يطوف، ولكنه طاف طاهرًا، لكنه ثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏)‏‏.‏ فالصلاة التي أوجب لها الطهارة ما كان يفتتح بالتكبير، ويختم بالتسليم، كالصلاة التي فيها ركوع وسجود، كصلاة الجنازة، وسجدتي السهو، وأما الطواف، وسجود التلاوة فليسا من هذا‏.‏

والاعتكاف يشـترط له المسجـد، ولا يشترط له الطهارة بالاتفاق، والمعتكفة الحائض تنهى عن اللبث في المسجد مع الحيض، وإن كانت تلبث في المسجد وهي محدثة‏.‏

قال أحمد بن حنبل في ‏[‏مناسك الحج‏]‏ لابنه عبد الله‏:‏ حدثنا /سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة، عن حماد، ومنصور قال‏:‏ سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ‏.‏ فلم يريا به بأسًا‏.‏ قال عبد الله‏:‏ سألت أبي عن ذلك، فقال‏:‏ أحب إلى ألا يطوف بالبيت وهو غير متوضئ؛ لأن الطواف بالبيت صلاة‏.‏ وقد اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الطهارة فيه، ووجوبها، كما هو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، لكن لا يختلف مذهب أبي حنيفة أنها ليست بشرط‏.‏

ومن طاف في جورب ونحوه؛ لئلا يطأ نجاسة من ذرق الحمام، أو غطي يديه لئلا يمس امرأة، ونحو ذلك، فقد خالف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين مازالوا يطوفون بالبيت وما زال الحمام بمكة، لكن الاحتياط حسن، ما لم يخالف السنة المعلومة فإذا أفضي إلى ذلك كان خطأ‏.‏

واعلم أن القول الذي يتضمن مخالفة السنة خطأ، كمن يخلع نعليه في الصلاة المكتوبة، أو صلاة الجنازة خوفًا من أن يكون فيهما نجاسة، فإن هذا خطأ مخالف للسنة‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه، وقال‏:‏ ‏(‏إن إليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم‏)‏ ، وقال‏:‏ ‏(‏إذا أتي المسجد أحدكم فينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذي فليدلكهما في التراب، فإن التراب لهما طهور‏)‏‏.‏

وكما يجوز أن يصلي في نعليه، فكذلك يجوز أن يطوف في نعليه،/وإن لم يمكنه الطواف ماشيا فطاف راكبًا‏.‏ أو محمولا أجزأه بالاتفاق، وكذلك ما يعجز عنه من واجبات الطواف، مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها كالمستحاضة، ومن به سلس البول، فإنه يطوف ولا شيء عليه باتفاق الأئمة‏.‏ وكذلك لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا فطاف بالليل، كما لو لم يمكنه الصلاة إلا عريانا‏.‏

وكذلك المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضًا، بحيث لا يمكنها التأخر

بمكة، ففي أحد قولي العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف‏:‏ إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة مطلقًا، أجزأه الطواف، وعليه دم؛ إما شاة، وإما بدنة مع الحيض والجنابة، وشاة مع الحدث الأصغر‏.‏

ومنع الحائض من الطواف قد يعلل بأنه يشبه الصلاة،وقد يعلل بأنها ممنوعة من المسجد، كما تمنع منه بالاعتكاف، وكما قال عز وجل لإبراهيم عليه والسلام‏:‏ ‏{‏أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ ، فأمـره بتطهـيره لهـذه العبادات، فمنعت الحائض من دخوله،وقد اتفق العلماء على أنه لا يجب للطواف ما يجب للصلاة من تحريم وتحليل وقراءة، وغير ذلك، ولا يبطله ما يبطلها من الأكل والشرب والكلام، وغير ذلك‏.‏

ولهـذا كـان مقتضي تعليل من منع الحائض لحرمة المسجد، أنه /لا يري الطهارة شرطا، بل مقتضي قولـه أنه يجـوز لها ذلك عنـد الحاجـة كما يجوز لها دخول المسجد عند الحاجـة، وقـد أمـر الله تعالى بتطهـيره للطائفين والعاكفين والركع السجود‏.‏ والعاكف فيه لا يشـترط لـه الطهارة ولا تجب عليـه الطهارة مـن الحـدث الأصغـر، باتفاق المسلمـين، ولو اضطـرت العاكفـة الحائض إلى لبثها فيه للحاجـة جاز ذلك‏.‏ وأمـا ‏{‏وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ فهم المصلون، والطهارة شرط للصلاة باتفاق المسلمين، والحائض لا تصلي، لا قضاءً ولا أداءً‏.‏

يبقي الطائف،هل يلحق بالعاكف،أو بالمصلي،أو يكون قسما ثالثا بينها‏؟‏هذا محل اجتهاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الطواف بالبيت صلاة‏)‏ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هو ثابت عن ابن عباس، وقد روي مـرفوعًا، ونقـل بعض الفقهاء عـن ابن عباس أنـه قـال‏:‏ ‏(‏إذا طـاف بالبيت وهـو جنب عليـه دم‏)‏‏.‏ ولا ريب أن المـراد بذلك أنه يشبه الصـلاة مـن بعض الوجـوه، ليس المراد أنه نوع من الصلاة التي يشترط لها الطهارة‏.‏ وهكذا قوله‏:‏ ‏(‏إذا أتي أحـدكم المسجد فـلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة‏)‏ ، وقوله‏:‏ ‏(‏إن العبد في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وما دام ينتظر الصلاة، وما كان يعمد إلى الصلاة‏)‏ ونحو ذلك‏.‏

فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا أمكنها ذلك باتفاق /العلماء، ولو قدمت المرأة حائضًا لم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة، وتفعل سائر المناسك كلها مع الحيض، إلا الطواف، فإنها تنتظر حتي تطهر إن أمكنها ذلك، ثم تطوف، وإن اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك، على الصحيح من قولي العلماء‏.‏

فإذا قضي الطواف صلى ركعتين للطواف، وإن صلاهما عند مقام إبراهيم فهو أحسن، ويستحب أن يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص‏:‏‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ و ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، ثم إذا صلاهما استحب له أن يستلم الحجر، ثم يخرج إلى الطواف بين الصفا والمروة‏.‏ ولو أخر ذلك إلى بعد طواف الإفاضة جاز‏.‏

فإن الحج فيه ثلاثة أطوفة‏:‏ طواف عند الدخول، وهو يسمي‏:‏ طواف القدوم، والدخول، والورود‏.‏ والطواف الثاني‏:‏ هو بعد التعريف، ويقال له‏:‏ طواف الإفاضة، والزيارة‏.‏ وهو طواف الفرض الذي لابد منه، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏ ‏.‏ والطواف الثالث‏:‏ هو لمن أراد الخروج من مكة، وهو طواف الوداع‏.‏

وإذا سعي عقيب واحد منها أجزأه، فإذا خرج للسعي خرج من باب الصفا‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي على الصفا والمروة، وهما في جانب /جبلي مكة، فيكبر ويهلل، يدعو الله تعالي، واليوم قد بني فوقهما دكتان، فمن وصل إلى أسفل البناء أجزأه السعي، وإن لم يصعد فوق البناء، فيطوف بالصفا والمروة سبعًا يبتدئ بالصفا ويختم بالمروة، ويستحب أن يسعي في بطن الوادي من العلم إلى العلم، وهما معلمان هناك‏.‏ وإن لم يسْعَ في بطن الوادي، بل مشي على هيئته جميع ما بين الصفا والمروة، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه‏.‏

ولا صلاة عقيب الطواف بالصفا والمروة، وإنما الصلاة عقيب الطواف بالبيت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفاق السلف والأئمة‏.‏

فإذا طاف بين الصفا والمروة حل من إحرامه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما طافوا بهما أن يحلوا، إلا من كان معه هدي فلا يحل حتي ينحره، والمفرد والقارن لا يحلان إلا يوم النحر، ويستحب له أن يقصر من شعره ليدع الحلاق للحج، وكذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإذا أحل حل له ما حرم عليه بالإحرام‏.‏